صعود:
قد يتساءل البعض عن لماذا بعدما قام السيد المسيح، صعد إلى السموات وجلس عن يمين الله في الأعالي؟!. وللإجابة عن هذا السؤال ينبغي لنا أن نعرف لماذا تجسد وعاش بيننا كإنسان كامل، ثم لماذا الصلب والدفن والقيامة، ثم الصعود والجلوس عن يمين الآب؟!.
ياأحباء الرب، هذا ما يعرف عند الآباء بالتدبير الإلهي للخلاص. وهذا معلوم لدى الثالوث القدوس قبل تأسيس العالم. اسمع ما يقوله القديس بطرس عن دم المسيح الذي سفك على الصليب بعدما تجسد وحل بيننا كإنسان، يقول”عالمين أنكم افتديتم لا باشياء تفنى بفضة أو ذهب من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء، بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح، معروفا سابقا(لدى الثالوث القدوس) قبل تأسيس العالم ولكن قد أظهر في الأزمنة الأخيرة من أجلكم”(1بط1: 18،19).
نحن نعلم كيف بعصيان الله سقط آدم الأول ومعه حواء أم البشرية الأولى، وتشوهت الصورة والمثال الذي كانا في آدم حينما خلقه الله قبل التعدي ودخول الموت إليه وإلينا. وسقط الإنسان في آدم وحواء بعدما طردا من حضرة الرب، وصارا في الموت وفي طريقه سائرين، وكلن فيهما بالضرورة كل الجنس البشري. ومنذ اللحظة الأولى لسقوطهما أعلن الله خطة تدبيره الخلاصية للإنسان قولا وفعلا، فاسمع الرب يبشر بالمخلص نسل المرأة(المسيح) موجها كلامه للشيطان(الحية القديمة)”هو يسحق رأسك”(تك3: 15). ثم ترجم الرب بدء عملية الخلاص بالستر من عري الخطية عن طريق الذبيحة التي أشارت من بعيد إلى ذبيحة الابن الوحيد الحبيب يسوع المسيح”وصنع الرب الإله لآدم وامرأته أقمصة من جلد وألبسهما”(تك3: 21).
وهكذا كان تدبير الله لخلاص جنسنا أن ينزل من علو سماه ليتحد ببشريتنا الكاملة خلوا من الخطية التي دخلت إلينا بغواية العدو الشيطان، وشابهنا في كل شيء، كإنسان كامل، وأخذ خطايانا جميعا منذ آدم وإلى نهاية الدهور، ليحملها على جسده الطاهر الذي بلا خطية، فصار خطية لآجلنا لنصير نحن بر الله فيه، وعلق على خشبة الصليب الذي كان كل من يعلق عليه فهو ملعون بحسب الناموس، ليرفع عنا اللعنة، ويمنحنا بركة الآب وعمل الروح القدس فينا، ومات وهو البار ليميت الموت بموته وينهي عنا سلطان الخطية، وقام ناقضا أوجاع الموت إذ لم يكن ممكنا أن يمسك منه لأنه هو القيامة والحياة، فقمنا فيه وبه ومعه. وهنا كان لابد أن يصعدنا معه إلى الآب الذي تغربنا عنه في سقوط آدم الأول لنوجد في حضرته بالمسيح يسوع ابنه الوحيد والذي نلبسه بإيماننا به وقبولنا له ومعموديتنا به للثالوث القدوس”لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح”(غل3: 27). وحينما يرانا الآب ونحن داخل المسيح يفتح ذراعيه فرحا ويقول هذ هو ابني الحبيب الذي به سررت. ويرى آدم وحواء وكل البشرية التي افتديت بدم ابنه ويقول عن أدم الأول “ابني هذا كان ميتا فعاش وكان ضالا فوجد”(لو15: 24). وهنا يكون ملء الفرح.
لذلك كان لابد أن الرب يسوع المسيح بعدما أكمل تجسده وموته وقيامته، كان لابد أن يصعد ليحضر أمام الآب البشرية الجديدة فيه، وهي مبررة بدمه ولابسة ثوب البر، فيقبلها في ابنه ويجلسها عن يمينه. فقد كان إكرام الابن الأكبر في الوليمة اليهودية أن يجلس عن يمين أبيه، إشارة إلى المكانة والشرف والمحبة الأبوية.
فانظروا ياأخوة كم كان لازما وضروريا أن يصعد المسيح له المجد ونحن فيه ليقدمنا إلى الآب كعروسه الخاصة المهيأة لعريسها السماوي، وحينئذ يلذ لنا التسبيح مع أفراح السماء هكذا”صوت الطرب وصوت الفرح صوت العريس وصوت العروس صوت القائلين احمدوا رب الجنود لأن الرب صالح لأن إلى الأبد رحمته”(إر33: 11).
فجلوس:
يليق بنا ياأحبائي أن نعلم أن الرب حينما صعد فقد صعد بنا ولنا لأنه بحسب الجوهر هو في حضن الآب كل حين منذ الأزل وإلى الأبد، وأما من جهة إخلائه لنفسه ونزوله وتجسده وموته وقيامته وصعوده، فهذا كله من أجلنا وببشريتنا التي اتحد بها اتحادا لا ينفصل إلى الأبد. من هنا نفهم ما جاء في العهد القديم وما نادى به الآباء الرسل في بشارتهم بالمسيح الذي قام وصعد وجلس عن يمين الآب.فبطرس يشهد قائلا” لأن داود لم يصعدإلى السموات وهو نفسه يقول: قال الرب لربي أجلس عن يميني، حتى أضع أعداءك مو طئا لقدميك”(أع2: 14، 15).
هذا الجلوس عن يمين العظمة في السموات لم يكن ممكنا لنا إلا في المسيح يسوع بعد أن أكمل على الأرض ما أرسله الآب من أجله لكي يتممه، وقد أعلن يسوع المسيح هذا على الصليب حينما قال “قد أكمل”(يو19: 30). هذا ما أكده القديس بولس الرسول عن الرب يسوع قائلا”الذي وهو بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته، بعدما صنع بنفسه تطهيرا لخطايانا(بدمه على الصليب وموته)، جلس في يمين العظمة في الأعالي”(عب1: 3).
وكلمة يمين الآب لا تعني أن الله له يمين وشمال حسي، ولكن هذا يشير إلى عظمة المكانة التي للابن ولنا فيه، نحن المؤمنين به. انصت لهذا الوعد الرائع من فم الرب في سفر الرؤيا”من يغلب فسأعطيه أن يجلس معي في عرشي كما غلبت أنا أيضا وجلست مع أبي في عرشه”(رؤ3: 21).
فانظر ياقارئي العزيز أي مجد وفخار وعز مذخر لنا في مسيحنا الذي صعد ليعد لنا هذا المكان العظيم والفائق الوصف أن نكون معه في عرشه الذي هو في الواقع عرش أبيه. هل فهمنا الآن معنى كلمة يمين الآب؟!. ألا يدفعنا هذا أن ننظر إلى فوق بأعيننا وقبلها بقلوبنا، في شوق للحظة اللقيا السماوية التي تفوق ما يخطر على قلب بشر؟!. ألا يقودنا هذا إلى التمسك بالرب مخلصنا وسط إغراءات العالم الفاني ونجاساته وأوهامه الباطلة التي تجذبنا بعيدا عن مجلسنا مع الثالوث في عرش الله بواسطة الابن الحبيب الوحيد يسوع المسيح الهنا ومخلصنا؟! ألسنا نعلم أنه ليس لنا هنا مدينة باقية لأننا نطلب ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين العظمة، وقد أعد لنا المكان ليأتي أيضا ويأخذنا معه ليجلسنا إلى الأبد في يمين الآب وفي العرش السماوي حيث نتمتع بما لم تر عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب إنسان؟!
اننا ونحن نعيش أمجاد القيامة والصعود وجلوس السيد الرب عن يمين الآب في السموات، دعونا ننتبه لكلمات القديس بولس ونعيشها يوما فيوما”فإن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق، حيث المسيح جالس عن يمين الله. اهتموا بما فوق لا بما على الأرض”(كو3: 1،2). أننا لو التزمنا بهذه الآيات المحيية التي هي أنفاس الله، فسوف نكون مستعدين في أي وقت لاستقبال العريس أن أتى إلينا أو إن طلبنا لنذهب إليه”لأنكم قد متم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله، متى أظهر المسيح حياتنا، فحينئذ تظهرون أنتم معه في المجد”(كو3: 3، 4).
اننا في شوق للجلوس في المسيح في عرش الآب وها لكم المنظر السماوي، سيخضع كل الأعداء تحت أقدامنا فيه، الشيطان والموت والدموع والألم والحزن والتنهد والصراخ والظلم والظلام وكل شر، ليحل عوض هذا الفرح الذي لا ينطق به ومجيد، والتهليل في النور الإلهي الغير المقترب منه، حيث الملائكة ورؤساء الملائكة يسجدون معنا للجالس على العرش صارخين وقائلين: قدوس قدوس قدوس رب الجنود البركة والعزة والكرامة تليق بك يارب الأرباب. ونكون في شبع ليس فيه جوع وري ليس فيه عطش وسلام الله الذي يفوق كل عقل يشملنا جميعا. آمين.