c.1661-1669. متحف الأرميتاج، سانت بطرسبرج
اشتياق الله للإنسان:
حينما خلق الله الإنسان نفخ في أنفه نسمة الحياة، والتي فيها أنفاسه الإلهية”وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفسا حية”(تك2: 7). ولم يتم هذا إلا بعد أن خلق الله آدم على صورته وشبهه”وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا”(تك1: 26). من هنا نفهم مدى اشتياق الله للإنسان. وهذا ما يفسر لنا ما جاء عن المسيح ابن الله الحي وهو حكمة الله وكلمته فيقول”ولذاتي مع بني آدم”(أم8: 31). كما يفسر لنا أيضا مدى السلطان الذي منحه الرب للإنسان وهو قبس من سلطان الله الشخصي، فأمر للبشرية بأن”يتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كل الأرض وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض”(1: 26).
عزيزي القاريء، اسمع اهتمام الرب بالبشرية المتمثلة في صهيون في العهد القديم أوالكنيسة في العهد الجديد، فيمثل نفسه بالأم الحنون في انجذابها وشوقها لبنيها متسائلا”هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟!، حتى هؤلاء ينسين وأنا لا أنساك، هوذا على كفي نقشتك أسوارك أمامي دائما”(أش49: 15، 16). إنه يشتاق للنفس البشرية أن يراها ويسمعها “أريني وجهك أسمعيني صوتك لأن صوتك لطيف ووجهك جميل”(نش2: 14). وكم تذوب حلاوة تلك الأشواق من الله تجاه أنفسنا مرة أخرى في سفر نشيد الأنشاد معلنا لها ما يجيش في أحشائه”إفتحي لي يا أختي يا حبيبتي يا كاملتي لأن رأسي امتلأ من الطل وقصصي من ندا الليل”(نش5: 2). والنفس تقر بإحساسها بشوق الرب إليها مصرحة”أنا لحبيبي وإليَّ اشتياقه”(نش7: 10).
على أن الله إذ يعلن اشتياقه الحقيقي تجاه الإنسان، إلا أنه لا يقحم نفسه على حرية اختياره، فهو يعرض عليه محبته وإرادته للسكنى معه والاتحاد به، ويترك القرار للإنسان”هانذا واقف على الباب واقرع. إن سمع أحد صوتي وفتح الباب أدخل إليه وأتعشى معه وهو معي”(رؤ3: 20). كما أن الإنسان الذي يقرر قبول عشرة الرب والاستجابة لاشتياقاته، سيفرح بغنى حلول الله وسكناه معه”إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي، وإليه نأتي، وعنده نصنع منزلا”(يو14: 23).
إشتياق الإنسان لله:
بالرجوع أيضا لسفر نشيد الأنشاد، نجد النفس البشرية تطلب في شوق الله كحبيب في بحثها عنه بعدما تاهت منه بسبب جهلها وعنادها”أحلفكن يا بنات أورشليم إن وجدتن حبيبي أن تخبرنه بأني مريضة حبا”(نش5: 8). وتسترسل النفس البشرية في أوصاف الله الحبيب ومركز اشتياقاتها لتصفه بأنه”فتى كالأرز، حلقه حلاوة وكله مشتهيات. هذا حبيبي وهذا خليلي يا بنات أورشليم”(نش5: 15، 16).
يا أحباء الرب، حينما نهدأ ونرجع بالتوبة إلى الله ونفتح قلوبنا لسكناه، سنجد اشتياقاتنا تتأجج داخلنا كتيار جارف بالحب نحوه. لقد عبّر إشعياء النبي عن هذا الشوق المتدفق داخله تجاه الرب فقال”بنفسي اشتهيتك في الليل أيضا بروحي في داخلي إليك أبتكر”(إش26: 9). ولقد أشار الروح لنا في سفر المزامير أن التعامل الدائم والتأمل والدرس في كلمة الله يقودنا هذا كله للاشتياق والاشتهاء لكل ما يخص الرب وبالأكثر وصاياه”هانذا قد اشتهيت وصاياك بعدلك أحيني”(مز119: 40). كما يؤدي هذا بنا إلى العشرة الدائمة مع الرب والاحتماء به في كل خطوات حياتنا إلى الأبد”تحت ظله اشتهيت أن أجلس وثمرته حلوة لحلقي”(نش2: 3).
إن اشتياقنا لله يأتي كنتيجة طبيعية لانجذابنا نحو مصدر وجودنا. ووراء هذا حب إلهي غير محدود ومسبق قبل الزمن”نحن نحبه لأنه أحبنا أولا”(1يو4: 19). أليس من العبث أن نضيع حياتنا وسني عمرنا في اشتهاء هيافات الحياة التي هي فراغ وعطش وجوع وخداع نفسي وروحي وجسدي. لقد لخص لنا سليمان الحكيم هذا المعنى في خبرة حياته بعدما اشتاق واشتهى العالم بكل ما فيه، واختبر وحصل على كل ما اشتهاه وقال”ومهما اشتهته عيناي لم أمسكه عنهما…ثم التفت أنا إلى كل أعمالي التي عملتها يداي وإلى التعب الذي تعبته في عمله فإذا الكل باطل وقبض الريح ولا منغعة تحت الشمس”(جا2: 10، 11).
عزيزي لو رجعت إلى نفسك واكتشفت ان اشتياقاتك أسيرة حب العالم الذي كل ما فيه”شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة ليس من الآب بل من العالم، والعالم يمضي وشهوته”(1يو2: 16، 17). وكما نعلم كلنا أن العالم وضع في الشرير، فليس أمامك إلا الصراخ من القلب إلى الله باتضاع قائلا”اجذبني وراءك فنجري”(نش1: 4). وإذا تم هذا في علاقتنا بالرب فيليق بنا أن نفتخر باشتياقنا وحبنا للرب قائلين”من سيفصلنا عن محبة المسيح؟ أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف… فإني متيقن أنه لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا؟”(رو8: 35، 38).
إلهنا الحبيب، نحوك اشتياقنا، فنحبك بكل القلب والنفس والفكر والقدرة فاقبلنا إليك لأننا فتحنا القلب لنقبلك لتملك على كياننا كله فيتحقق ما جاء في سفر الرؤيا عن مؤمنيك المشتاقين إليك ليذوقوا السماء من الآن”وسمعت صوتا عظيما من السماء قائلا هوذا مسكن الله مع الناس وهو سيسكن معهم وهم يكونون له شعبا والله نفسه يكون معهم إلها لهم”(رؤ21: 3).
كتب في نوفمبر ٢٠١٦