+ الشبع :
لقد خلق الإنسان كائنا يأكل ويشبع فيسر ويشكر ويبارك ويسبح الله الذي أنعم عليه بهذا الغنى الفائق محبة منه بلا مقابل”وأنبت الرب الإله من الأرض كل شجرة شهية للنظر وجيدة للأكل… وأوصى الرب الإله آدم قائلا من جميع شجر الجنة تأكل أكلا، وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها”(تك2 :9 ،16). كما أن القديس بولس الرسول يشير إلى أن الله وضع في النفس أن تتمتع فتنجذب إليه راجعة بالشكر والتسبيح مع الفرح الداخلي به فيقول“ ألله الحي الذي يمنحنا كل شيء بغنى للتمتع”(1تي6 :17). ورأينا هذه الصورة الجميلة للكنيسة الأولى، وكيف كان الطعام والأكل معا سببا في لقاءات المحبة التي كانت تجمع الكل حول مائدة الرب في فرح وتهليل وابتهاج القلب”وكانوا يواظبون على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات… وإذ هم يكسرون الخبز في البيوت كانوا يتناولون الطعام بابتهاج وبساطة قلب، مسبحين الله”(أع2 : 42 ،46، 47).
من هنا يتضح لنا أن الشبع عن طريق الجسد، إنما ليقود إلى شبع النفس، وشبع النفس يقود إلى ابتهاج القلب والروح، والروح إذا فرحت تقود الإنسان في جوقة التسبيح الكوني لله خالق الكل ومعطي الجميع. هذا هو المسار الطبيعي للإنسان فيما يخص الشبع. ولابد أن نعرف أن الشبع الذي وضعه الرب فينا ليغطي جميع الغرائز الطبيعية في الإنسان، نهايته الطبيعية هي الفرح والسرور والشكر والتسبيح. في هذا المجال نستطيع أن نفهم معنى كلام الكتاب”كل شيء طاهر للطاهرين، وأما للنجسين وغير المؤمنين فليس شيء طاهرا بل قد تنجس ذهنهم أيضا وضمائرهم”(تي1 :15). إذن فكل شيء خلقه الله إنما هو حسن في ذاته، ولكن طريقة تعامل الإنسان مع الأشياء هو الذي يحدد ماهو طاهر وما هو نجس، وما هو حلال وما هو محرم”لأن كل خليقة الله جيدة ولا يرفض شيء إذا أخذ مع الشكر، لأنه يتقدس بكلمة الله والصلوات”(1تي4 :4 ،5).
والشبع هو علامة الغنى والملء، فقد وجه داود كلامه إلى الله قائلا”أمامك شبع سرور، في يمينك نعم إلى الأبد”(مز16 :11)،فكل من سار أمام الله كحمل يقوده راعيه، سيتمتع بالشبع الإلهي “أنا الله القدير، سر أمامي وكن كاملا”(تك17 :1)، وكل من شبع بالرب فحتما سيسر وبفرح به، فيمتليء بالقوة”لا تحزنوا لأن فرح الرب هو قوتكم”(نح8 :10). إن النفس الشبعانة تخبر بغنى الله دون كلام، فمجرد سلوكها وتصرفاتها من خلال الحياة اليومية، يظهر حضور الرب الغني والمشبع أمام الجميع” النفس الشبعانة تدوس العسل وللنفس الجائعة كل مر حلو”(أم27 :7). أحبائي في الرب، لن تشبع نفوسنا إلا بالرب، فهو مصدرها ومنه خرجت ولن تجد شبعها وسرورها إلا فيه، إنها خبرة كثيرين بلا عدد على مدى التاريخ الإنساني. وها هو القديس أوغسطينوس الذي عاش زمنا طويلا رافضا الله، وتمرغ في كل أنواع النجاسة والشهوات، ورغم علمه الكثير وجريه وراء فلسفة وحكمة العالم بكل صنوفها، إلا انه لما عرف الرب المخلص قال في صلاته له:” لقد تأخرت كثير ا في معرفتك وحبك، وستظل نفوسنا حائرة وعطشى إلى أن تجد راحتها فيك”. إن الشبع بالرب هو أن نجعله سيدا وقائدا لكل حياتنا في السر والعلن، نصلي إليه بلا توقف، ونسترشد بكلامه في الكتاب المقدس في كل ما يخص حياتنا، ونسعى لمرضاته فوق أهواء ذواتنا بإطاعة وصاياه مهما كان الثمن. لقد دفع دمه لأجلنا حبا لخلاصنا، فماذا يكون غاليا في حياتنا أكثر منه؟!.
على أن هناك شبعا آخر بعيد عن الله يقدمه الشيطان لنا من خلال العالم الذي وضع في الشرير. في هذا يشهد علينا الرب السماء قائلا”إبهتي أيتها السموات من هذا واقشعري وتحيري جدا يقول الرب، لأن شعبي عمل شرين، تركوني أنا ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم آبارا آبارا مشققة لا تضبط ماء”(إر2 :12، 13). والشبع لا يأتي للإنسان من خارجه، ولكن من الله الساكن فيه. ولنا في تجربة سليمان الحكيم خلاصة خبرته نقدمها كما هي “قلت أنا في قلبي هلم أمتحنك بالفرخ فترى خيرا… إفتكرت أن أعلل جسدي بالخمر وقلبي يلهج بالحكمة وأن آخذ بالحماقة حتى أرى ما هو الخير لبني البشر حتى يفعلوه تحت السموات مدة أيام حياتهم، فعظمت عملي، بنيت لنفسي بيوتا غرست لنفسي كروما، عملت لنقسي جنات وفراديس وغرست فيها أشجارا من كل نوع ثمر. عملت لنفسي برك مياه لتستقي بها المغارس المنبتة الشجر. قنيت عبيدا وجواري وكان لي ولدان البيت، وكان لي أيضا قنية بقر وغنم أكثر من جميع الذين كانوا في أورشليم قبلي. جمعت لنفسي فضة وذهبا وخصوصيات الملوك والبلدان. إتخذت لنفسي مغنين ومغنيات وتنعمات بني البشر سيدة وسيدات… ومهما اشتهته عيناي لم أمسكه عنهما. لم أمنع قلبي من كل فرح لأن قلبي فرح بكل تعبي وهذا كان نصيبي من كل تعبي. ثم التفت أنا إلى كل أعمالي التي عملتها يداي وإلى التعب الذي تعبته في عمله فإذا الكل باطل وقبض الريح ولا منفعة تحت الشمس … فلنسمع ختام الأمر كله، إتق الله واحفظ وصاياه لأن هذا هو الإنسان كله”(جا2: 1 – 11، 12: 13)
+ ألجوع:
هناك جوع يؤدي للموت، وآخر يؤدي للحياة. فنقرأ عن تحذير سنحاريب ملك أشور للشعب الذي في أورشليم قائلا”أليس حزقيا يغويكم ليدفعكم للموت بالجوع والعطش قائلا الرب إلهنا ينقذنا من يد ملك أشور ؟!”(2أي32 :11). وفي سفر إشعياء يقول الرب”… وأميت أصلك بالجوع فيموت بقيتك”(إش14 :30).
ولكن جوع الجسد الذي يؤدي للموت، ليس هو فقط الذي نسمع عنه في الكتاب المقدس. فهناك جوع لكلمة الله المحيية، وإذا لم ينتبه الإنسان ويجري ليأكل الكلمة، فهو في الطريق إلى الموت لا محالة.
لذلك فلننتبه إلى الجوع المغبوط والمطوب من الله، فقد قال الرب”طوبى للجياع والعطاش إلى البر لأنهم يشبعون”(مت6:5). هنا الشبع بالمسيح – غصن البر وكلمة الله- يملأ النفس، وإذا شبعت النفس سيكون الكيان كله ممتلئا” النفس الشبعانة تدوس العسل، وللنفس الجائعة كل مر حلو”(أم27 :7). نلاحظ أن النفس لا تأكل عسلا ولكن الجسد هو الذي يأكل، ومع هذا فالكتاب يظهر لنا قوة شبع النفس وكيف تحمل ضعف الجسد واحتياجاته إلى ما هو أسمى. إن الله هو الخبز الحقيقي لحياتنا كلها، فهو كلمة الحياة التي يلذ لنا أن نجوع إليها ونأكل منها فنشبع ولا نموت. ولنحذر من التهاون بكلمة الله التي بين أيدينا وفي كل بيت ونسمعها في الكنائس ومن خدام الرب في كل مكان، لئلا يغضب الرب ويتوارى عنا فلا نجده”هوذا أيام تأتي يقول السيد الرب أرسل جوعا في الأرض لاجوعا للخبز ولا عطشا للماء بل لاستماع كلمات الرب، فيجولون من بحر إلى بحر ومن الشمال إلى المشرق يتطوحون ليطلبوا كلمة الرب فلا يجدونها”(عا8 :11 ،12).
ياأحباء الرب ألا يكفينا الزمان الذي مضى في تكاسلنا عن الأكل والشرب من كلمة الله؟!. فاليوم إن سمعتم صوته في داخلكم يدعوكم إلى كلمته المحيية، فلا تقسوا قلوبكم ولا تؤجلوا فالوقت مقصر والأيام شريرة، ولعلك عزيزي القاريء تحس الآن وأنت تقرأ هذه الكلمات باشتياق داخلك بدعوة الروح لكي تفتح كتابك المقدس لتأخذ كلمة تشبع جوعك الروحي. أرجو إن أحسست ذلك أن تترك كل شيء وتقرأ وتسمع ما يوجهه لك الرب الآن من خلال كلمته الحية المحيية. لقد وعدنا أن”من يقبل إلى فلا يجوع ومن يؤمن بي فلا يعطش أبدا”(يو6 :35) .
ثم أن الجوع إلى الرب يملأه لنا بجسده المكسور ودمه المسفوك لأجل غفران خطايانا وحياتنا الأبدية. فبه نحيا ونتحرك ونوجد “أنا هو الخبز الحي النازل من السماء، إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد، والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم… فمن يأكلني فهو يحيا بي”(يو6 :51 ، 56 ) ليتنا حينما نتقدم للتناول من جسد الرب ودمه يكون فينا هذا الجوع المبارك بتوبة حقيقية وانسحاق أمام الرب واشتياق لنكون فيه وهو فينا فيشبعنا ويطهرنا ويحيينا. لذلك يحلو لنا أن نختم كلامنا بأنشودة الحب هذه”في طريق أحكامك يارب انتظرناك، إلى اسمك وذكرك شهوة النفس. بنفسي اشتهيتك في الليل. أيضا بروحي في داخلي إليك أبتكر. لأنه حينما تكون أحكامك في الأرض يتعلم سكان المسكونة العدل”(إش26 :8 ،9).