ألعذراء القديسة مريم…….. وسيف في النفس

,
ألعذراء القديسة مريم…….. وسيف في النفس

The Descent from the cross (fragment) By: Duccio di Buoninsegna, Circa 1308-1311, Tempera on wood, Museo dell’Opera del Duomo, Siena, Italy


+ لعل كلمات سمعان الشيخ الملهمة بالروح القدس، ظلت ترن في أذني القديسة مريم العذراء منذ ذهبت بالطفل يسوع الى الهيكل بعدما تمت أيام تطهيرها حسب شريعة موسى،”… وأنت أيضا يجوز في نفسك سيف”( لو35،34:2 )، ورغم ما سمعت القديسة مريم من نبوات وتعظيم لمولودها الالهي، وكذلك التطويب والتكريم لشخصها، إلا أن كلمات النبوة على فم ذلك الشيخ كانت سريعة التحقيق قبل أن تسمعها ومنذ قبولها البشارة بالميلاد الالهي العجيب. ولكن مع ألآم هذا السيف الذي كان يجوز نفسها، كان هناك إيمانها العظيم الذي سند قلبها، فجعلها تتجاوز الألآم لتعيش الأمجاد مع ابنها وإلهها يسوع المسيح ملك المجد. وظلت هذه القديسة في صمتها العجيب وترقبها الهادئ، تئن بلا صوت لطعنات ذلك السيف القاسي في قلبها كأم حنون. ولكن وفي نفس الوقت، كانت تعظم نفسها الرب وتبتهج روحها بالله مخلصها (لو47،46:1). لقد لخصت قبولها لهذا الأمر في اجابتها على الملاك المبشر جبرائيل ” هوذا أنا أمة الرب ” ( لو38:1 ).

+ سيف الشك:

كان للبشارة بتجسد الله الكلمة من العذراء مريم، حسابات الألم والمجد معا، لقد كانت كلمات الملاك جبرائيل لها بأنها ستحبل وتلد ابنا، تحمل معها سيفا يجوز نفسها. فكيف يكون هذا وهي عذراء ونذرت للرب بتوليتها بقية عمرها. ولو كان هناك أية فكرة بأن تحمل من يوسف خطيبها لما قالت للملاك”كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلا؟!”(لو34:1)، ولكن عندما أجابها قائلا”الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك، فلذلك أيضا القدوس المولود منك يدعى أبن الله”(لو35:1)، حينئذ سلمت الأمر لالهها وأجابت بملء الايمان القلبي”هوذا أنا أمة الرب، ليكن لي كقولك”(لو38:1)، وفورا بدأ الحمل الالهي وحل في أحشائها الابن الكلمة، وبدأت الآم السيف تجوز خيالها وفكرها الطاهر، ماذا ستجيب عن نفسها حينما تظهر أعراض حملها الالهي؟ هل تسبق وتخبر يوسف بالرؤيا وبشارة الملاك لها؟ وهل سيصدق قصتها وهو شيخ قد جاوز-حسب التقليد- التسعين من عمره؟ ثم ما هي نظرته ونظرة المجتمع اليهودي لها وهي نذيرة الرب وأبنة الهيكل؟!. على أن الأمر الأخطر هو تعرضها لعقوبة الزنا وهي الرجم حتى الموت. ولكن القديسة الطاهرة مريم العذراء لم تحتسب لشيء ولم تفكر في نفسها، بل بإيمان واثق صمتت كعادتها المقدسة، وعلمت بقلبها أن الله الذي ارتضى أن يولد منها هو رب المجد القدير المخلص،وأنه يستطيع أن يظهر الحق ويخرجه الى النصرة، ولم تتأخر عن الذهاب بسرعة لنسيبتها العجوز أليصابات، لتخدمها وهي حامل بابن في شيخوختها، وما أن سمعت أليصابات صوت سلام مريم في أذنيها حتى ارتكض الجنين بابتهاج في بطنها، وامتلأت من الروح القدس وصرخت بصوت عظيم وقالت”مباركة أنت في النساء ومباركة هي ثمرة بطنك، فمن أين لي هذا أن تأتي أم ربي الي”(لو43،42:1). وهنا بدأت تشعر القديسة مريم أن الله بنفسه يتولى الأمر ويظهر الخفايا بطريقته الالهية، فلم تنطق بشيء الا ما نطقه الروح القدس على شفتيها بأروع تسبيحة في العهد الجديد”تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي…”(لو47،46:1). وبعدما مكثت العذراء مريم عند أليصابات تخدمها لمدة ثلاثة أشهر، عادت بعدها إلي بيتها وقد بدأت علامات الحمل تظهر عليها. وهنا بدأ سيف الشك يجوز فيها، من خلال نظرات يوسف البار لها. وكانت تساؤلاته المكتومة تكاد تحطم نفسها. ورغم كل هذا لم تتكلم وهي في يقين أنه كما كان أيام موسى هكذا يكون الآن، سامعة في أعماقها قوله لبني اسرائيل عند البحر الأحمر، عندما سعى فرعون وراءهم”ألرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون”(خر14:14). لقد عاشت القديسة مريم في الهيكل منذ صغرها وحفظت الكثير من المزامير والكتب المقدسة، ولعلها تذكرت كلمات المزمور”انتظر الرب، ليتشدد وليتشجع قلبك وانتظر الرب”(مز14:27)، وهو ما حدث بالفعل، فما أن راود الشك قلب يوسف البار- ولأنه بار – أراد تخليتها سرا، حتى ظهر له ملاك الرب في حلم قائلا”يايوسف ابن داود لاتخف أن تأخذ مريم امرأتك، لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس”(مت20:1)… فما أعظمك يارب.
+ سيف الفقر :

لقد عاشت القديسة مريم العذراء سيفا يجوز نفسها مع العوز والاحتياج بصحبة هذا النجار الشيخ البار طيب القلب يوسف، تتقاسم معه خبز الكفاف اليومي بالدراهم القليلة التي كان يحصلها من مهنته، إلا أن عمق ألم هذا السيف تجلى أمام هذه الأم العذراء عند ولادتها لرب المجد. فلم يكن لدي يوسف خطيبها ما يمكنها أن تلد في مكان يليق، أو حتى منزل، واضطرت أن تلد ملك المجد في أحقر الأماكن، في مذود للحيوانات. وما أصعب تلك اللحظات، واذ لم تجد ما يليق بالقدوس المولود منها، قمطته ببعض الخرق البالية، وأحشاؤها الطاهرة تتمزق كأم حقيقية له، وما أصعب هذا السيف؟!. ولكن ايمانها العملاق، وتسليمها العالي للرب، كان هو سندها القوي. وإذا بالسماء تهتز والقوات العلوية تهبط الى الأرض لتبشر الرعاة بهذا الميلاد الالهي الفائق للعقل والتصور، ويركض الرعاة ويدخلوا المغارة ليجدوا الطفل الالهي مع مريم أمه ويوسف النجار، فيخبروا بما رأوا وسمعوا من الملائكة، وتنزل هذه الكلمات على قلب العذراء كالندى الذي يطفئ حرارة القيظ، ويخبرنا الكتاب عن هذه الجنة المغلقة ويقول”أما مريم فكانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به في قلبها”(لو19:2). وأيضا يذكرنا داود النبي في مزاميره بأن”كلها مجد ابنة الملك في خدرها”(مز13:45). وما خدر النفس إلا قلبها؟!… ولعله ليس عبثا أن يكون ضمن هدايا المجوس للمولود ملك اليهود، بعضا من الذهب، فحتما استعملته العائلة المقدسة في نفقات رحلة الهروب الشاقة الى مصر من وجه هيرودس الملك الذي أراد أن يقتل الطفل الالهي. إننا نجد ياأحبائي، كيف أن قبول السيدة العذراء لسيف الألم بشكر وإيمان وتسليم، يجعل الله يعمل بمجد ليدبر كل شيء كحسب صلاحه المطلق وفي الوقت الحسن.ألم يقل لنا مخلصنا بعدما تكلم بفيض عن الألم والاضطهادات التي تصبينا من جراء إيماننا به وسلوكنا حسب وصاياه”بصبركم اقتنوا أنفسكم؟!”(لو19:21).

+ سيف الصليب :

إن العذراء القديسة مريم عاشت سيف الصليب منذ البداية. وكانت تتوقع هذه النهاية لابنها المسيح على أيدي اليهود. فمنذ بدأ رب المجد خدمته كان يقتاد بالروح في البرية صائما أربعين يوما يجرب من ابليس، ترى ماذا كان شعور الأم الحنون تجاه الجهاد العنيف لابنها مع الشيطان المعروف بأنه”كان قتالا للناس من البد”(يو44:8)، ثم بعد ذلك عندما دخل يسوع إلى مجمع اليهود في الناصرة، وبدأ من إشعياء يعظ مبكتا اليهود على عدم توبتهم، يقول الكتاب”فامتلأ غضبا جميع الذين في المجمع حين سمعوا هذا، فقاموا وأخرجوه خارج المدينة وجاءوا به الى حافة الجبل الذي كانت مدينتهم مبنية عليه حتى يطرحوه الى أسفل”(لو 29،28:4). كم يكون قلب الأم على ابنها القدوس حينما تسمع بالظلم والحقد ومحاولة القتل تحيط به منذ بداية خدمته؟!. وهكذا أيضا اتهم الكتبة والفريسيون المسيح – له المجد- بأنه يتكلم بتجاديف، وذلك حينما قال للمفلوج”مغفورة لك خطاياك”(لو20:5). كما اتهموه أيضا بأنه كاسر السبت، وأنه أكول وشريب خمر، وكانوا يحنقون جدا ويصادرونه على أمور كثيرة وهم يراقبونه طالبين أن يصطادوا شيئا من فمه لكي يشتكوا عليه. وكان معروفا بحسب الناموس أن هذه الأشياء عقوبتها الموت، وكانت تتطاير هذه التهديدات الى مسامع العذرا الأم، تحمل اليها شبح الصليب لابنها الحبيب في كل يوم. ولم يكن يقويها سوى إيمانها القلبي وهي مسنودة بنبوات الكتاب. كما أن الأحداث التي رأتها تؤكد صدق كلام الله وبشارة الملاك جبرائيل لها، وحضور الرعاة مخبرين بتهليل الملائكة، ونطق الروح القدس على لسان أليصابات نسيبتها، وكذلك حنه بنت فنوئيل في الهيكل وسمعان الشيخ الشاهد لخلاص السيد الرب في ذلك المولود، ثم زيارة المجوس وتقديمهم هداياهم، وحماية السماء للطفل المولود من بطش هيرودس الملك، هذا غير ما لانعرفه من معجزات تمت في فترة حياة السيد المسيح مع السيدة العذراء لمدة ثلاثين عاما، كل هذا كان سندا لقلبها مقابل السيف الذي كان يجوز نفسها، ولعلها بروحها الشفافة- منذ أن رأت المر ضمن الهدايا التي قدمها المجوس- أحست بالصليب الذي كان يطارد خيالها والمزمع أن يكون هدية ابنها المخلص للبشرية كلها، حتي تحقق ما كان خيالا، ورأت بعينيها أبنها القدوس يصلب كخاطيء، وابن الله يقتل بأيدي البشر، وكمال المحبة تداس بالبغضه، والحق والحياة يغتالهما الموت. ولعل القطعة الأخيرة في الساعة التاسعة من صلوات الكنيسة اليومية، تترجم ببلاغة وتلخص مشاعر العذراء القديسة عند أقدام الصليب فتقول : ” لما نظرت الأم الحمل والراعي مخلص العالم على الصليب معلقا قالت وهي باكية، أما العالم فيفرح لقبوله الخلاص، وأما أحشائي فتلتهب نارا عند نظري الى صلبوتك الذي أنت صابر عليه من أجل الكل ياابني والهي”… فاشفعي فينا أيتها الأم التي لله ولنا ليعيننا الرب على خلاصن نفوسنا .

 

Skills

Posted on

August 24, 2012

Submit a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Share This