أمي العذراء الطاهرة والدة الإله القديسة مريم، دعيني أن أكون في رحلة مع شخصك المبارك والمكرم من الله والأجيال، بدءا من دخولك إلى الهيكل كنذيرة للرب.
منذ ولادتك وأنت وعد من الله لإمك حنة وأبيك يواقيم. بل أقول انك تعينت أن تأتي من سبط يهوذا، ليكون منك ابن الله وابن الإنسان، ابن داود من سبط يهوذا حسب الجسد. ولدت ليس من أبناء هارون في كهنوته القديم ليأتي منك الله الكلمة رئيس كهنتنا الأعظم عل طقس ملكي صادق، فكلاهما لم يكن لهما نسب من سبط لاوي. لقد تحققت بك وفيك نبوات العهد القديم المشيرة إليك من بعيد كأم ووالدة الله الكلمة المتجسد. فلم يتحقق تجسد الرب إلا بالروح القدس وبواسطتك”ولكن يعطيكم السيد نفسه آية، ها العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل”(إش7: 14)….”لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابنا وتكون الرياسة على كتفه، ويدعى اسمه عجيبا مشيرا إلها قديرا أبا أبديا رئيس السلام، لنمو رياسته للسلام لا نهاية على كرسي داود”(إش9: 6 ،7). وعن بتوليتك وتكريس أحشائك للرب، قال حزقيال في نبوءته”ثم أرجعني إلى المقدس الخارجي المتجه للمشرق وهو مغلق، فقال لي الرب هذا الباب يكون مغلقا لا يفتح ولا يدخل منه إنسان لأن الرب إله اسرائيل دخل منه فيكون مغلقا”(حز44: 1 ،2).
ويعوزني الوقت والصفحات الكثيرة لألتقط من العهد القديم والنبوات والمزامير والأحداث المشيرة لك ما لا يحصى، أيتها الممتلئة نعمة.
ثم أتزلف خلفك وأنت تقدمين من والديك إلى الهيكل نذيرة للرب، ترى ماذا كانت مشاعرك كطفلة في الثالثة من عمرها تدخل إلى الهيكل دون الخروج منه حتى سن البلوغ؟! كانت تحيطك هناك العبادات التي ليهوه العظيم بما تحويه من ذبائح وتسابيح وكهنة ولاويين وأعياد ومواسم وطقوس، قل من احاط بمعرفتها جميعا. كيف تقبلت ياصغيرتي القديسة حرمانك من الأب وأحضان الأم ورفقة الصغار، لتكوني في صحبة حنة النبية ذات العقود المتراكمة في عمرها، وسمعان الشيخ الذي أحنت ظهره السنون؟! كيف كنت تعيدين الأعياد الممتلئة بفرح الأطفال الذين في صحبة أهليهم ألى الهيكل، وأنت تترقبين بعيون الطفلة البريئة وصول الأب والأم مرة في السنة للقائهم… تذكرتك وكأنك صموئيل النبي وهو نذير منذ طفولته” وكان صموئيل يخدم أمام الرب وهو صبي متمنطق بأفود من كتان، وعملت أمه جبة صغيرة وأصعدتها له من سنة إلى سنة عند صعودها لذبح الذبيحة السنوية”( 1صم2: 18 ،19). أكنت ياصغيرتي القديسة تترقبين ثياب العيد الآتية بها أمك الحنون، من سنة إلى سنة؟! أنا أعرف وأوقن بأن الرب كان يملأ كل كيانك الصغير. وأن كنت لا أتغافل المشاعر الإنسانية الطبيعية فيك بما فيها من حرمان وألم، فأنا أعلم أن الرب قد درب نفسك الغضة منذ الصغر على سيف سيجوز إلى أعماقك في مسيرتك حتى الجلجثة، حيث الصلب لابنك يسوع الحبيب. لقد سمعتها بأذنيك من سمعان الشيخ والنبي”وأنت أيضا يجوز في نفسك سيف لتعلن أفكار من قلوب كثيرة”(لو2: 35)…”وأما مريم فكانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به في قلبها”(لو2: 19). أو لعل الرب كان يهيء قلبك الرقيق لتحتملي ولادة ابنك الإلهي في مذود حقير وظهره ملقى علي التبن والقش الخشن وكأنه يمهد نظرك حينما ترين ظهره مستندا إلى الصليب.
ثم ماذا عن يتمك المبكر من الأب والأم، ثم خروجك مع خطيبك يوسف النجار البار وأنت مازلت فتاة صغيرة؟!. كيف لم تعترضي على شيء ولم تبدي رأيا فيما يخص حياتك؟! أهكذا كانت قوة تسليمك للرب في كل ما فيك وما هو لك؟!… الآن عرفت قوة ما أعلنته للملاك المبشر جبرائيل حينما جاوبته عن ما قاله من أمور لا يمكن لعقل بشري أن يقبلها” هوذا أنا أمة الرب ليكن لي كقولك”(لو1: 38)…أما صمتك وأعماقك المكرسة للرب فهذا شيء يذهل عقلي. كيف بعدما تلقيت البشرى بحملك لله الكلمة أنك لم تخبري خطيبك يوسف بما حدث؟! أو بالأحرى كيف لم تطلبي رسميا من جبرائيل الملاك أن يوضح هذا الأمر الإلهي ليوسف؟! لماذا لم تذكري للملاك خطورة وعواقب الحمل لعذراء لم تتزوج؟! ألم تذكري له حد الرجم المنصوص عليه في الشريعة الموسوية؟!.
أتذكر الآن ما جاء في سفر النشيد”أختي العروس جنة مغلقة عين مقفلة ينبوع مختوم”(نش4: 12)… لقد حبست أنفاسي وأنا أقترب من البار يوسف النجار وهو يكاد ينفجر حزنا وكمدا لما رأى علامات الحمل الإلهي تظهر عليك. كان يحدث نفسه المقدسة ماذا أعمل ياربي؟! هل أبلغ عنها حافظي الناموس والشريعة لتقدم للرجم؟! أو ماذا أفعل؟! كم كانت نظراته وتصرفه تجاهك يمزقان قلبك الطاهر ونفسك الوديعة. لقد شكرت الله كثيرا من أجل هذا القديس البار”فيوسف رجلها إذ كان بارا ولم يشأ أن يشهرها أراد تخليتها سرا”(مت1: 9). ياإلهي لقد التقطت أنفاسي ، ولكن ماذا بعد أن يتخلى عنها وهي بلا عائل لها؟! وأخيرا سجدت لله شكرا وحمدا من أجل صلاحه ومحبته ورعايته للذين يسلمون الأمر بالكامل له، ألم يقل الكتاب”توكل على الرب بكل قلبك وعلى فهمك لا تعتمد”؟!(أم3: 5)…”ولكن فيما هو متفكر في هذه الأمور إذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلا :يايوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس”(مت1: 20).
أمي العذراء، كيف لم يستطع الشيطان الكذاب وأبو الكذاب، أن يخترق سياج فكرك المقدس ليلقي ببذار الشك في كل ما حدث لك حينما جاء ت ساعتك لتلدي إبنك القدوس ولم تجدي له مكانا لولادته إلا مذود في حظيرة للحيوانات؟! ولكني أتوقع إيمانك الجبار وانتظار نفسك للرب. فما هو إلا وقت قصير جدا لتجدي الرعاة المتهللين يخبرونك مع يوسف البار عن ظهور الملائكة المسبحين بمجد الله في الأعالي وسلام الأرض ومسرة الناس. ثم وبعد زمن نرى مجوس المشرق يأتون ساجدين لملك الملوك ورب الأرباب فاتحين كنوزهم للمولود ملك اليهود.
ما أعظم نفسك الوادعة الخاشعة المذعنة لكل ما يأمر به الرب. فها ألأمر صدر من الله إلى يوسف بالهروب إلى مصر. فقبلت بهدوء مشقة السفر والغربة والضيق في وسط شعب يعبد الأوثان التي ارتجفت من وجه الرب”هوذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر فترتجف أوثان مصر من وجهه ويذوب قلب مصر داخلها”(إش19: 1). لقد فهمت الآن ما قلته للخدام في عرس قانا الجليل عن ابنك الإلهي”مهما قال لكم فافعلوه”(يو2: 5).
وإلى هنا أقف قليلا لألتقيك عند الجلجثة أيتها العذراء الطاهرة، راجيا شفاعتك وصلواتك عنا، فإلى لقاء.