+ يونان:
معنى اسمه حمامة. والحمامة لها الطيران في السماء ولها الهدوء والطمأنينة ولها بساطة، بل سذاجة، الشكل والسلوك. ولعل يونان النبي له في شخصيته الكثير من هذه الصفات، فقد كان أمر الرب ليونان أن يذهب إلى نينوى الأممية لينادي عليها بإنذار الرب لها بالخراب إن لم تتب، أوليس هذا هو قانون الرب الذي لا يتغير منذ القدم؟!”إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون”(لو13: 3). ومن كلام يونان مع الله نستطيع أن نستنتج حوارا يكشف اللثام عن شخصية يونان(الحمامة)، اسمعه يقول:”آه يارب، أليس هذا كلامي إذ كنت بعد في أرضي؟ لذلك بادرت إلى الهرب إلى ترشيش، لأني علمت أنك إله رؤوف ورحيم بطيء الغضب وكثير الرحمة ونادم على الشر”(يون4: 2).
هنا تتضح لنا شخصية يونان الرقيقة التي تعرف رقة قلب الله رغم توعده لنينوى بالهلاك مما جعل يونان يبادر بالهرب، وهذا ما نفعله كثيرا ببساطة بل أقول بغباء حينما نفكر بالهرب من الله. إنه تفكير الحمامة الساذجة فكيف ولماذا نهرب من الهنا الآب الحنون، ثم أيضا القوي الممسك كل شيء ويحمله بكلمة قدرته. إسمع خبرة داود النبي في هذا إذ يقول”أين أذهب من روحك ومن وجهك أين أهرب، إن صعدت إلى السموات فأنت هناك وإن فرشت في الهاوية فها أنت، إن أخذت جناحي الصبح وسكنت في أقصى البحر فهناك أيضا تهديني يدك وتمسكني يمينك”(مز139: 7- 10). إن معرفتنا الحقيقية بالله تجعلنا نهرب ليس منه بل إليه. ألم يقل بطرس للسيد المسيح” يارب إلى من نذهب كلام الحياة الأبدية عندك”(يو6: 68). ولعل يونان قال للرب لماذا ترسلني لأبشر بالهلاك لتلك المدينة وأنا أعرف رقة قلبك تجاه من يرجع إليك؟ ولماذا تضعني في مواجهة عنيفة مع أولئك القوم الذين لا يعبدونك؟ لعلهم يقتلونني.
في كل هذا ليس لنا إلا الرب، نبثه ضيقنا وهمنا وقلقنا في ثقة أنه يدبر كل شيء حسنا”ألق على الرب همك فهو يعولك، لا يدع الصديق يتزعزع إلى الأبد”(مز55: 22). وحينما قال الرب لنا”كونوا حكماء كالحيات وبسطاء كالحمام”(مت10: 16)، لم يكن ليقصد أن نكون سذجا، بل في بساطة ونقاء قلوبنا يكون لنا الحكمة الساوية التي فيه نتخلى عن ذواتنا بقبولنا الدخول من الباب الضيق، فهذا ما تعمله الحية حينما يضيق عليها جلدها في مراحل نموها، فإنها تحشر نفسها في فتحة ضيقة جدا وترغم جسدها للمرور منها قسرا، فينسلخ عنها الجلد العتيق، لتكتسي بغيره جديدا أكثر براحا وأجمل الوانا.
إذن ياأخوتي، فلنتعلم من الهنا الحنون الذي دعانا قائلا:”تعلموا مني لآني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم”(مت11: 29). ولننظر لمعلمنا والهنا الصالح الذي كان كالحمامة”لا يخاصم ولا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة مدخنة لا يطفيء”… ولكنه في حكمته وقوته يقول عنه الكتاب”حتي يخرج الحق إلى النصرة”(مت12: 19 ،20).
ياربي الحبيب دعني أكون في بساطة الحمام في هدوئك ووداعتك وتواضعك، واملأني بروح الحكمة السماوية الفوقانية المملؤة طهارة وسلام وترفق وإذعان للحق، حكمة مملؤة رحمة وأثمارا صالحة عديمة الريب والرياء، فأنطلق إلى العالم أجمع، مبشرا بخلاصك ومناديا بفرح للجميع تعالوا” ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب”(مز34: 8).
+ ألأعماق:
كثيرا ما كان يحلو لنا في طفولتنا، أن نكتفي باللعب على شاطيء البحر، دون الدخول إلى الأعماق. وعلي الشاطيء لا يمكننا أن نتمتع بسباحة جميلة، بل إن زبد البحر وتقلب الأمواج تكفئنا على وجوهنا كلما حاولنا مواجهتها. هكذا حالنا في طفولتنا الروحية مع الرب. لا نريد أن نسير برفقته طولا وعرضا ولعلنا لم نفكر في الغوص معه، لنرى عجائب أعماقه.
هيا بنا لنسمع أمر الرب لبطرس حينما فرغ من كلامه مع الشعب، قال له:”أبعد إلى العمق والقوا شباككم للصيد، فأجاب بطرس وقال له يامعلم قد تعبنا الليل كله ولم نأخذ شيئا ولكن على كلمتك ألقي الشبكة، ولما فعلوا ذلك أمسكوا سمكا كثيرا جدا فصارت شباكهم تتخرق”(لو5: 4- 6).
والآن ومع يونان في أعماق البحر وفي جوف الحوت وفي موته – بحسب الظاهر- حفظه الرب ثلاثة أيام وثلاث ليال ليشرق عليه فيها برؤية الله وبخلاصه وخلاص النوتية(البحارة) ثم بخلاص أهل نينوى. في الأعماق كانت خلوة يونان وصومه وتوبته وصلاته ورؤيته النبوية.
إننا نلاحظ أن يونان لم يصلي عندما دعوه النوتية لذلك، ولكنه في العمق والخلوة الجبرية التي حاصره بها الرب نجد الكتاب يقول:”فصلى يونان إلى الرب إلهه من جوف الحوت”(يون2: 1). إننا كثيرا ما نكون في غربة عن الرب لسبب أو لآخر، وقد يدعونا الرب أن نجلس إليه يريد أن يسمع منا لأنه يحبنا، ولأن في ذلك كل الخير لن، ولكننا في أوقات كثيرة نستعفي برأي واحد. إنه كعريس لأنفسنا التي ليست لنا لأنه، اشترانا لنفسه من كل أمة وشعب ولسان، أقول كعريس يدعو عروسه قائلا:”أريني وجهك أسمعيني صوتك، لأن صوتك لطيف ووجهك جميل”(نش2: 4). ولابد لنا أن نعلم أننا صرنا بالإيمان به ومعمودينا به، قد صارت لنا طبيعته الجميلة لأننا قد لبسناه وقد صار لنا فكر المسيح ورائحته الإلهية. فكيف لا يكون بيننا التواصل والعلاقة والشركة معه دائما؟. لذلك في العمق والخلوة نستطيع بسهولة أن نراه ونتصل به في صلاة وحب وانسكاب. ولعله لخيرنا قد يضطر أن يحاصرنا بالتأديب لأن الذي يحبه الرب يؤدبه.
كما في الأعماق اكتشف يونان ضعفه ومحدودية إمكانياته التي لم تسعفه في ضيقة نفسه. هنا نسمعه يصلي بصراخ قلبه”دعوت من ضيقي الرب فاستجابني، صرخت من جوف الهاوية فسمعت صوتي”(يون2: 2). ليتنا حينما تنتفخ ذواتنا على الله والناس ونرى أننا شيء عظيم في أعين أنفسنا، أن ندخل إلى الأعماق لنكتشف ضعفنا الحقيقي وعجزنا في مواجهة أمور كثير في حياتنا وعائلاتنا وأشغالنا وأمراضنا وعدم السلام الذي يلفنا ونحن هاربون من وجه الرب.
ثم في الهدوء والعمق نستطيع أن نعي رسالة الله التي أرسلنا من أجلها في حياتنا وهي:”نائلين غاية إيمانكم خلاص النفوس”(1بط1: 9). وهذا أدركه يونان النبي وهو في جوف الحوت، أن الرب سيعيده مرة أخرى للحياة ليكمل رسالته لأهل نينوي ثم يعود مرة أخرى إلى أوروشليم حيث هيكل الله ليقدم هناك ذبائح السلامة والشكر والحمد. أو بمعنى آخر، أننا في العمق والخلوة مع الله، يهبنا من روحه القدوس الإيمان وروح الاستعلان والنبوة والرجاء”ولكنني أعود أنظر إلى هيكل قدسك…ثم أصعدت من الوهدة حياتي أيها الرب إلهي…فجاءت إليك صلاتي إلى هيكل قدسك…أما أنا فبصوت الحمد أذبح لك وأوفي بما نذرته”(يون2: 4،6،7).
ياأحباء الرب هيا بنا لندخل إليه في الأعماق فتكون صلاتنا وأصوامنا وقراءتنا في الكتاب وتوبتنا واعترافنا وعطاؤنا وكل ما يخص علاقتنا بالحبيب الرب عريس أنفسنا، تكون جميعا في الأعماق. ودعونا نسمع قول الكتاب الرائع في هذا الصدد”هم رأوا أعمال الرب وعجائبه في العمق”(مز74: 24). ليتنا لا نكتفي باللهو على شاطيء الحياة مع الله، بل ندخل إلى العمق حيث يحملنا الروح لنفحص به أعماق الله”لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله”(1كو2: 10). هناك نكون في أنهار الروح الفياضة حيث نختبر ما قاله حزقيال النبي”وإذا بنهر لم أستطع عبوره لأن المياه طمت مياه سباحة نهر لا يعبر”(حز47: 5). ما ألذ أن نكون في العمق مع الرب لينقلنا الروح من مجد ‘لى مجد وشبع إلى شبع حيث”غمر ينادي غمرا”(مز42: 7).