ألشبع


+ الإنسان الجائع:
الإنسان مخلوق يجوع ويشبع… ثم يجوع ويشبع…ثم ماذا؟! إنه مخلوق لا يكف عن هذه العملية المتكررة إلى آخر نسمة في حياته. وليس الشبع والجوع عند الإنسان مثله كمثل الحيوان أو النبات، أو أي من المخلوقات الأخرى. فلأن الإنسان خلق على صورة الله وشبهه، فأصبح الجوع والأكل والشبع لها جميعا بعد آخر غير بقية المخلوقات. ولأن الإنسان تميز بالعقل والتفكير والروح التي من نفخة الله القدير، فقد صارت له رابطة خاصة جدا بالله يرتبط به حياتيا وينزع إليه أبديا. وأصبح جوع الإنسان الحقيقي هو إلى الاتحاد بالله خالقه والذي خلق على صورته ومثاله، ليكون شبعه فيه.
من هنا نستطيع أن نفهم لماذا وضع الله آدم في الجنة وأوصاه أن يأكل من كل شجر الجنة ما خلا شجرة معرفة الخير والشر. فكان الأكل بعد جوع يتبعه شبع وتلذذ بما يأكله آدم، فيسر ويشكر ويسبح الله. وهكذا تتوالى هذه العملية ليكون لآدم فرصة باختياره الحر إذا حفظ وصية الرب ولم يأكل من شجرة الموت، أن يصير في حالة شبع دائم باتحاده الدائم بالله، حيث يتحقق له الملء في كل شيء لحياة أبدية مع الرب.
لذلك لا عجب لأننا نعيش الآن حالة الجوع الذي لا يتوقف بأن نأكل آلآف وآلآف المرات في حياتنا على الأرض ولم نشبع بعد. ثم نتساءل عن شيء يمكنه أن يسد جوعنا مرة واحدة وإلى الأبد فلا نجد على الأرض مرادنا. وفي الواقع إنه جوعنا إلى الأبدية السعيدة مع الرب خالقنا والذي منه خرجنا وإليه نرجع”لأن منه وبه وله كل الأشياء”(رو11: 36).
وفي الأبدية، حيث ملكوت الله، لن نحتاج إلى أكل وشرب حيث لا جوع بل شبع كامل وإلى الأبد”لأن ليس ملكوت الله أكلا وشربا بل هو بر وسلام وفرح في الروح القدس”(رو14: 17).
على أن جوع الإنسان وهو على الأرض، ليس فقط للأكل والشرب وإشباع غرائزه أيا كانت كمثل سائر المخلوقات الأخرى، بل لأن له هذا البعد الإلهي والشوق الطبيعي إلى الأبدية، فنرى جوعا آخر متميزا في أولاد الله الذين استعلنت لهم حقيقة الأبدية داخلهم، فالكتاب المقدس يقول لنا عن الله أنه”صنع الكل حسنا في وقته وأيضا جعل الأبدية في قلبهم التي بلاها لا يدرك الإنسان العمل الذي يعمله الله من البداية إلى النهاية”(جا3: 11). وأيضا قال الرب يسوع:ها ملكوت الله داخلكم”(لو17: 21).
وانسان الله ليس بالخبز وحده يحيا بل بكل كلمة تخرج من فم الرب. وفي كل مرة يأكل فيها انسان الله خبز الأرض، يتذكر خبز الحياة وكلمة الله. وحينما يقرأ كلمة الله فهو يأكلها أكلا بعقله وقلبه وكل قدرته” وجد كلامك فأكلته، فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي لأني دعيت باسمك يارب إله الجنود”(إر15: 16). وقدأعلن الرب لعاموس النبي أنه سيرسل في وقت ما إلى الأرض جوعا خاصا”هوذا أيام تأتي يقول السيد الرب أرسل جوعا في الأرض لا جوعا للخبز ولا عطشا للماء بل لاستماع كلمات الله”(عا8: 11). وقد أكد الرب في موعظته على الجبل هذا المعنى فقال” طوبى للجياع والعطاش إلى البر لأنهم يشبعون”(مت5: 6). على أن كل من يجوع للعالم وشهواته بعيدا عن الله لا يشبع أبدا لأن”النفس الشبعانة(بالله) تدوس العسل وللنفس الجائعة كل مر حلو”(أم27: 7).
ولنا في الابن الضال المثل الواضح، فبعيدا عن بيت أبيه “أنفق كل شيء وحدث جوع شديد… وكان يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب التي كانت تأكله الخنازير فلم يعطه أحد”(لو15: 14 -16). والسؤال لنا اليوم إلى أي شيء نحن نجوع ؟!!

+ ألشبع بالرب:
يقول داود في صلاته إلى الرب”أما أنا فبالبر أنظر وجهك، أشبع إذا استيقظت بشبهك”(مز17: 15). لقد كان اشتياق موسى – كليم الله – أن يرى وجه الرب ولكن سمع الجواب من العلي قائلا”لا تقدر أن ترى وجهي لأن الانسان لا يراني ويعيش”(خر23: 20). ولكن وجد الله مخرجا للإنسان كي يرى وجهه ويعيش، بل أن يشبع من جوعه لله الأبدي بآن واحد. فقال داود “أما أنا فبالبر أنظر وجهك”(مز17: 15)، وهو بروح النبوة يتكلم هنا عن بر المسيح له كل المجد، الذي نلبسه بإيماننا ومعموديتنا به”لأنكم كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح”(غل3: 27). لقد حسب القديس بولس الرسول حساباته بعدما آمن بالسيد المسيح واعتمد، فوجد أن كل ماكان له ربحا قبل ذلك، هو خسارة من أجل ربحه ومعرفته للرب. لذلك لم يتكل على أي بر غير بر المسيح الذي به أمكنه أن يرى ويشبع بالرب”وليس لي بري الذي من الناموس بل بإيمان المسيح، البر الذي من الله بالإيمان”(في3: 9).
ياأحباء الرب، معلوم لدينا أن الإنسان عندما يشبع من شيء يمل منه، أو حينما تكون فيه شهوة امتلاك الشيء، فطالما امتلكه لا يعود فيه الاشتياق الأول. فمثلا إذا كان هناك شخص ما جائع جدا ويريد أن يأكل، فبعدما يملأ بطنه بالتمام لا يستطيع أن ينظر للطعام أو يأكل منه أكثر. وكذلك ما يخص شهوة الجنس، فلنا في أمنون ابن داود مثلا واضحا على عدم استمرار السرور باكتمال الشهوة والامتلاك. فبعدما اغتصب أمنون ثمار أخته وأذلها يقول الكتاب”ثم أبغضها أمنون بغضة شديدة جدا، حتى أن البغضة التي أبغضها إياها كانت أشد من المحبة التي أحبها إياها”(2صم13: 15).
أما سليمان فقد لخص هذه الحقيقة في سفر الجامعة، بعدما حقق لنفسه ملء شهواته بأنواعها، فقال”ومهما اشتهته عيناي لم أمسكه عنهما…ثم التفت أنا إلى كل أعمالي التي عملتها يداي وإلى التعب الذي تعبته في عمله فإذا الكل باطل وقبض الريح ولا منفعة تحت الشمس”(جا2: 10، 11).
والآن دعونا نرى أن الشبع بالرب يلازمه السرور الحقيقي والفرح الدائم. وأيضا نرجع إلى داود، مرنم اسرائيل الحلو، في مزموره الذي يقول فيه للرب”أمامك شبع سرور، في يمينك نعم إلى الأبد”(مز16: 11). هنا نرى أن مجرد أن يأتي إلينا الرب، أو نأتي إليه فأمامه شبع لا يتبعه ملل أو ضيق أو انطفاء الشوق إليه، بل شبع يلازمه سرور وفرح لا ينطق به ومجيد. فهو جوع بلهفة الملء مصحوب بالشبع الإلهي الممتليء بالسرور. وهكذا نجد فيه كل شيء جديدا باستمرار وإلى الأبد. إن غنى المسيح الذي لا يستقصى لا يدعه يكرر عطاياه مثل أمس وأول من أمس بل اسمع هذه الآية”مراحمه لا تزول، هي جديدة في كل صباح”(مراثي2: 22، 23). وأيضا في سفر الرؤيا قال الرب”ها أنا أصنع كل شيء جديدا”(رؤ21: 5).
فالآن ياأخوة لنستمتع بشبعنا اليومي بالرب، فنذوق السرور الذي ليس فيه ملل ولا اكتفاء. فكما ذاق داود دعونا نتذوق الرب لندعوا الجميع معه”ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب”(مز34: 8)، حينما نستيقظ نترآي أمام الرب بالصلاة والجلوس عند قدميه نسمع كلماته في الكتاب المقدس. ثم نبدأ يومنا به، نأخذه معنا في قلوبنا إلى أعمالنا، نكون في صلة قلبية معه نمسك به ولا نرخه، نترجاه أن يلازمنا في كل شيء ليحفظنا من كل ما لا يرضيه وينمينا في كل ما يريده. وفي آخر اليوم نجلس معه ليبارك نهاية يومنا ويضع شماله تحت رؤوسنا ويمينه تعانقنا لنستيقظ على شبهه فنشبع ونسر. من هنا نستطيع أن نفهم ما كان يختلج بين ضلوع إشعياء النبي حينما قال”بنفسي اشتهيتك في الليل، أيضا بروحي في داخلي إليك أبتكر”(إش26: 9).


كتابة الأب أنطونيوس زكري فيً مارس٢٠١٣

Skills

Posted on

March 15, 2013

Submit a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Share This