الله لنا ملجاء

,
الله لنا ملجاء
  • “الله لنا ملجاء”

                         (مز1:46)

 كان في العهد القديم ما يسمى بمدن الملجأ، وهي ست مدن أمر الرب موسى، ومن بعده يشوع بن نون، أن تخصص في وسط مدن اللاويين، لتكون ملجأ لكل من يقتل انسانا بدون قصد، فيهرب ذلك الإنسان من ولي الدم(أي الآخذ بالثأر)،“ويقف في مدخل باب المدينة ويتكلم بدعواه في آذان شيوخ تلك المدينة، فيضمونه إليهم إلى المدينةويسكن في تلك المدينة حتى يقف أمام الجماعة للقضاء، إلى أن يموت الكاهن العظيم(أي رئيس الكهنة) الذي يكون في تلك الأيام، حينئذ يرجع القاتل ويأتي إلى مدينته وبيته”(يش1:20- 6).

 إن كل الاشارات والرموز التي في العهد القديم، والتي تتكلم عن الملجأ، إنما هي علامات على الطريق المؤدي إلى شخص السيد المسيح، الذي هو، وبلا جدال، الملجأ الحقيقي لكل من يؤمن به ويتحد به محتميا فيه. والكنيسة تعلمنا هذا في أوشية الإنجيل (أي الطلبة التي يصليها الكاهن قبل قراءة الانجيل في الكنيسة)، فيصلي مخاطبا رب المجد قائلا “لأنك أنت هو حياتنا كلنا، خلاصنا كلنا، رجاؤنا كلنا، شفاؤنا كلنا، وقيامتنا كلنا”، وهذا يعني أن   المسيح فادينا، هو ملجأنا من العدم والخطية واليأس والمرض والموت، وهو ملجأ لكل أولاده سواء في الأرض أو في السماء تحت كل الظروف والأوقات. والآن تعالوا معا نتأمل في واحدة من تلك الرموز وهي مدن الملجأ:

 أول كل شيء يلفت انتباهنا هو كلام الله لموسى بخصوص مدن الملجأ، فلماذا موسى؟!، إن موسى يمثل الناموس والوصايا التي لم يستطع أي إنسان أن يحفظها بلا عثرة، فمعروف كما قال معلمنا يعقوب الرسول “أن من حفظ كل الناموس وإنما عثر( أخطأ ) في واحدة فقد صار مجرما في الكل، لأن الذي قال لاتزن قال أيضا لاتقتل، فان لم تزن ولكن قتلت، فقد صرت متعديا الناموس(كله)”(يع11،10:2)،   فالناموس أظهر للإنسان خطاياه وأثامه وتعدياته، وأعلن غضب الله على المتعدين،”لأن الناموس ينشئ غضبا إذ حيث ليس ناموس ليس أيضا تعد”(غل15:4)، وهكذا موسى أظهر الناموس كلعنة وغضب من الله على كل خاطئ، وكأنه ولي الدم(أي المطالب بالحق من الخاطئ). ولقد وجدنا في السيد المسيح الملجأ الأمين من لعنة الناموس وحكمه المسلط كسيف على رقابنا، فقد أكمل الناموس عنا، فهو المولود بلا خطية، وهو”لم يعمل ظلما ولم يكن في فمه غش”(اش9:53)، هذا تم لنا بتجسده، ثم بصلبه وموته على الصليب، أنهى على سلطان الناموس الذي كان ضدا لنا”إذ محا الصك الذي علينا في الفرائض الذي كان ضدا لنا وقد رفعه من الوسط مسمرا اياه بالصليب”(كو14:2)، ولقد شهد يوحنا المعمدان عن أهمية الايمان بالسيد المسيح ابن الله كملاذ لنا من الغضب الالهي” ألذي يؤمن بالابن له حياةأبدية، والذي لايؤمن بالابن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله”(يو36:3).

  أما القديس بولس فقد أوضح الطريق العملي ليكون المسيح ملجأنا، فبعد الايمان به لابد أن نلبس المسيح بالمعمودية فيكون ملجأنا بالحقيقة”لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح”(غل3: 27)،  فالذي يؤمن به كابن الله الفادي المخلص ويلبس المسيح بالمعمودية، فهو يختبئ فيه كملجأ أمين من الغضب الالهي.

 كما اننا نحتمي بالمسيح له المجد من الشيطان المشتكي علينا”من سيشتكي على مختاري الله؟ الله هو الذي يبرر، من هو الذي يدين؟ ألمسيح هو الذي مات بل بالحري قام أيضا الذي هو أيضا عن يمين الله ألذي يشفع فينا”(رو33:8)، وأيضا يفرح قلوبنا جدا هذا المنظر الرائع الذي سجله القديس يوحنا في رؤياه، فيقول”وسمعت صوتا عظيما قائلا في السماء:ألآن قد طرح المشتكي على اخوتنا الذي كان يشتكي عليهم أمام إلهنا نهارا وليلا، وهم غلبوه بدم الخروف وبكلمة شهادتهم”(رؤ11،10:12)، وما أعظم شخص ربنا المخلص وهو يضع نفسه كملجأ لتلاميذه وقت تجربة الصليب، وخصوصا بطرس المتعالي على بقية اخوته حينما قال الرب لتلاميذه”كلكم تشكون في في هذه الليلةفأجاب بطرس وقال له وإن شك فيك الجميع فأنا لا أشك أبدا”(مت33،31:26)، فيأتي معلمنا لوقا الانجيلي ويكشف سر الحرب الخفية من الشيطان ضد أبناء الله، وأيضا سر حب المسيح لأولاده كملجأ لهم، فيعلن على لسان الرب هذه الحقيقة”وقال الرب سمعان سمعان هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة، ولكني (هنا المسيح يظهر نفسه أنه الملجأ من الشيطان المشتكي) طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك، وأنت متى رجعت ثبت اخوتك”(لو32،31:22).

  ياأحبائي إن كان أحد منا يعاني من محاربات الشيطان وشكواه المرة في ضميره لكي يطوح به بعيدا عن مسيحه الفادي المخلص، فليس أمامه الا أن يلقي بكل رجائه في ذاك الذي أحبه فضلا، ومات من أجله وفتح جنبه بطعنة الحربة ليكون له فيه باب يحتمي خلفه في ملجأ حبه الأبوي، وهو سيحارب عنه فينظر ويشكر ويمجد. أليست مائدة الرب المقدم عليها جسده ودمه كل يوم، هي الملجأ العملي لمجابهة العدو الشرير، كما قال داود في المزمور”ترتب قدامي مائدة تجاه مضايقي”(مز5:23).

 كانت مدن الملجأ تتوسط مدن الشعب، وهذا اشارة لاسم السيد المسيح حجر الزاوية الذي بدونه ليس نجاة أو خلاص”هذا هو الحجر الذي احتقرتموه أيها البناؤون الذي صار رأس الزاوية، وليس بأحد غيره الخلاص، لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص”(أع12،11:4). والسؤال لنا هل السيد المسيح له المجد هو مركز حياتنا؟!. هل هو محور تفكيرنا كما يقول الكتاب” ومستأسرين كل فكر الى طاعة المسيح”(2كو5:10)، وهل نأخذ قدرة الحياة والحركة منه شخصيا واثقين ومؤمنين بكلامه لنا”بدوني لاتقدرون أن تفعلوا شيئا”(يو5:15)؟!. هل هو قوة الجذب الأولى في حياتنا؟!، فيكون هو شهوة أنفسنا وأرواحنا وأجسادنا؟!. فلنسمع إشعياء النبي يعبر عن هذا بقوله”ففي طريق أحكامك يارب انتظرناك، إالى اسمك وإلى ذكرك شهوة النفس، بنفسي اشتهيتك في الليل، أيضا بروحي في داخلي إليك أبتكر”(اش9،8:26). فلتكن هذه طلبة كل واحد منا في حياته دائما، مصليا إلي من أحبه بالحق وبذل ذاته من أجل خلاصه، فينسكب أمامه بقلب محتاج ومنسحق متضرعا إليه قائلا: ليتك ياربي يسوع المسيح تكون مركز حياتي، واسمك يكون ملجأي الحصين الذي أركض إليه وأتمنع.

 وكان الهارب إلى مدن الملجأ يقف عند باب المدينة ويتكلم بدعواه في آذان شيوخ تلك المدينة، فيدخلوه ويسكن معهم في المدينة ويظل محبوسا هناك حتى يموت رئيس الكهنة الأعظم فينال حريته ويعود إلى مدينته وبيته. كان الهارب يظن أن دخوله من باب مدينة الملجأ هو كل أمله في النجاة، ولكنه يجد نفسه في سجن ليس له حرية أو اختيار أن يخرج منه إلا عند موت رئيس الكهنة الأعظم، وأما مخلصنا المسيح، ملجأنا الأمين، فحينما نركض إلى باب مراحمه، فنجده يشجعنا قائلا”أنا هو الباب، إن دخل بي أحد فيخلص ويدخل ويخرج ويجد مرعى”(يو9:10)، تعالوا إلي بلا خوف، فعندي العتق الحقيقي والحرية الكاملة والحياة “فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارا”(يو36:8). أما موت رئيس الكهنة فله معنى روحي عميق، فموته يشير إلى رفع حكم الناموس من الوسط”وأما الآن فقد تحررنا من الناموس إذ مات الذي كنا ممسكين فيه”(رو6:7)، فقد كان وجود رئيس الكهنة عائقا لحرية ذلك البائس الهارب، وجاء مسيحنا الحلو، رئيس الكهنة الأعظم على  طقس ملكيصادق، ليموت بنا ولنا مرة واحدة، فينهي ويكمل كل ما يطلبه الناموس، ويوفي كل ما للعدل الالهي”وليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداء أبديا”(عب12:9)، وبهذا وهبنا حرية مجد أولاد الله، وأعادنا الي بيت الآب ليس كغرباء بل كبنين”فلستم إذا بعد غرباء ونزلا، بل رعية مع القديسين وأهل بيت الله”(أف19:2)، فما أعظم رئيس كهنتنا الحي إلى الأبد يشفع فينا بذبيحة نفسه، ويهبنا الحرية الحقيقية مقدما لنا ذبيحته بجسده ودمه لنأكل ونشرب فنثبت فيه وهو فينا، ونعيش حريتنا فيه إلى الأبد.

 ياأحبائي، إن كنا نختفي في المسيح كملجأ لنا بإيماننا به ولبسنا له بالمعمودية، فإنه يختفي فينا بجسده ودمه، ليظهر ذاته من خلالنا، وهكذا قال الكتاب”فانكم كلما أكلتم هذا الخبز، وشربتم هذه الكأس، تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء”(1كو26:11)ألله لنا ملجأنا، فما أعظمه من ملجأ.

Skills

Posted on

November 13, 2018

Submit a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Share This